فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

{تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1)}
افتتاح السورة بالتبات مشعر بأنها نزلت لتوبيخ ووعيد، فذلك براعة استهلال مثل ما تفتتح أشعار الهجاء بما يؤذن بالذم والشتم ومنه قوله تعالى: {ويل للمطففين} [المطففين: 1] إذ افتتحت السورة المشتملة على وعيد المطففين للفظ الويل ومن هذا القبيل قول عبد الرحمان بن الحكم من شعراء (الحماسة):
لَحَا الله قَيْسًا قَيسَ عَيلان إنها ** أضاعت ثُغور المسلمين وولَّتِ

وقول أبي تمام في طالعةِ هجاء:
النارُ والعارُ والمكروه والعطب

ومنه أخذ أبو بكر بن الخازن قوله في طالع قصيدة هناء بمولد:
مجشري فقد أنجز الإِقبال ما وعد

والتَّبُّ: الخسران والهلاك، والكلام دعاء وتقريع لأبي لهب دافع الله به عن نبيئه بمثل اللفظ الذي شَتَم به أبو لهب محمدًا صلى الله عليه وسلم جزاءً وفاقًا.
وإسناد التبّ إلى اليدين لِما روي من أن أبا لهب لما قال للنبي: تبًا لك سائرَ اليوم ألهذا جمعتنا. أخذ بيده حجرًا ليرميه به.
وروي عن طارق المحاربي قال: بينا أنا بسوق ذي المجاز إذا أنا برجل حديث السن يقول: «أيها الناس قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا»، وإذا رجل خلفَه يرميه قد أدمى ساقيه وعرقوبيه ويقول: يا أيها الناس إنه كذاب فلا تصدقوه. فقلت: من هذا؟ فقالوا: هذا محمد يزعم أنه نبيء، وهذا عمه أبو لهب، فوقع الدعاء على يديه لأنهما سبب أذى النبي صلى الله عليه وسلم كما يقال للذي يتكلم بمكروه: (بفيك الحجارة أو بفيك الكثكث).
وقول النابغة:
قعود الذي أبياتهم يثمدونهم ** رمى الله في تلك الأكف الكوانع

ويقال بضد ذلك للذي يقول كلامًا حسنًا: لا فُضَّ فُوك، وقال أعرابي من بني أسد:
دَعَوْتُ لِمَا نابنِي مِسْوَرًا ** فلبَّى فلبَّيْ يَديْ مِسْورِ

لأنه دعاه لِما نابه من العدوِّ للنَّصر، والنصر يكون بعمل اليد بالضرب أو الطعن.
وأبو لهب: هو عبد العزى بن عبد المطلب وهو عمّ النبي صلى الله عليه وسلم وكنيته أبو عتبة تكنية باسم ابنه، وأمّا كنيته بأبي لهب في الآية فقيل: كان يكنّى بذلك في الجاهلية (لحسنه وإشراققِ وجهه) وأنه اشتهر بتلك الكنية كما اقتضاه حديث طارق المحاربي، ومثله حديث عن ربيعة بن عباد الديلي في (مسند أحمد)، فسماه القرآن بكنيته دون اسمه لأن في اسمه عبادة العزى، وذلك لا يُقره القرآن، أو لأنه كان بكنيته أشهر منه باسمه العَلَممِ، أو لأن في كنيته ما يتأتى به التوجيه بكونه صائرًا إلى النار، وذلك كناية عن كونه جهنميًا، لأن اللهب ألسنةُ النار إذا اشتعلت وزال عنها الدخان.
والأبُ: يطلق على ملازم ما أضيف إليه كقولهم: (أبوها وَكيَّالها) وكما كني إبراهيم عليه السلام: أبا الضيفان وكنَّى النبي صلى الله عليه وسلم عبدَ الرحمان بن صَخْر الدَّوْسي: أبا هريرة لأنه حمل هِرَّةً في كم قميصه، وكُني شهرُ رمضان: أبَا البَركات، وكني الذئب: أبا جَعدةٍ والجعدة سخلة المعز لأنه يلازم طلبها لافتراسها، فكانت كنية أبي لهب صالحة موافقة لحاله من استحقاقه لهب جهنم فصار هذا التوجيه كناية عن كونه جهنميًا لينتقل من جعل أبي لهب بمعنى ملازم اللهب إلى لازم تلك الملازمة في العرف، وهو أنه من أهل جهنم وهو لزوم ادعائي مبني على التفاؤل بالأسماء ونحوها كما أشار إليه التفتازاني في مبحث العَلَمِيَّة من (شرح المفتاح) وأنشد قول الشاعر:
قصدت أبا المحاسن كي أراه ** لشوق كان يجذبني إليه

فلما أن رأيتُ رأيت فردًا ** ولم أر من بنيه ابنا لديه

وقد يكون أبو لهب كنيته الحطب كما أنبأ عنه ما روي عن أبي هريرة: إن ابنة أبي لهب قالت للنبي صلى الله عليه وسلم إن الناس يصيحون بي ويقولون إني ابنةُ حطب النار... الحديث.
وقرأ الجمهور لفظ {لهب} بفتح الهاء، وقرأه ابن كثير بسكون الهاء وهو لغة لأنهم كثيرًا ما يسكنون عين الكلمة المتحركة مع الفاء، وقد يكون ذلك لأن {لهب} صار جزءَ عَلَم والعرب قد يغيرون بعض حركات الاسم اذا نقلوه إلى العلمية كما قالوا: شُمْس بضم الشين، لشَمْس بن مالك الشاعر الذي ذكره تأبط شرًا في قوله:
إنّي لمُهْدٍ من ثَنائِي فقاصد به لابن ** عَمِّ الصدققِ شُمْس بننِ مالك

قال أبو الفتح بن جنّيّ في كتاب (إعراب الحماسة): يجوز أن يكون ضم الشين على وجه تغيير الأعلام نحو مَعدِ يكرب.
وتَهْلُك ومَوْهَب وغير ذلك مما غُيِّر عن حال نظائره لأجل العلمية الحادثة فيه أهـ.
وكما قالوا: أبو سُلْمى بضم السين كُنية والدِ زهير بن أبي سُلمى لأنهم نقلوا اسم سَلمى بفتح السين من أسماء النساء إلى جعله اسم رجل يكنى به لأنهم لا يكنون بأسماء النساء غالبًا.
ولذلك لم يسكن ابن كثير الهاء من قوله تعالى: {ذات لهب} وقراءة ابن كثير قراءة أهل مكة فلعل أهل مكة اشتهرت بينهم كنية أبي لهب بسكون الهاء تحقيقًا لكثرة دورانها على الألسنة في زمانه.
وجملة: {وتب} إما معطوفة على جملة: {تبت يدا أبي لهب} عطف الدعاء على الدعاء إذا كان إسناد التبات إلى اليدين لأنهما آلة الأذى بالرمي بالحجارة كما في خبر طارق المحاربي، فأعيد الدعاء على جميعه إغلاظًا له في الشتم والتقريع، وتفيدُ بذلك تأكيدًا لجملة: {تبت يدا أبي لهب} لأنها بمعناها، وإنما اختلفتا بالكلية والجزئية، وذلك الاختلاف هو مقتضِي عطفها، وإلا لكان التوكيد غير معطوف لأن التوكيد اللفظي لا يعطف بالواو كما تقدم في سورة الكافرون.
وإمّا أن تكون في موضع الحال، والواو واوَ الحال ولا تكون دعاء إنما هي تحقيق لحصول ما دُعي عليه به كقول النابغة:
جَزَى ربُّه عني عديَّ بن حاتم ** جَزَاء الكلاب العاويات وقَدْ فَعَلْ

فيكون الكلام قبله مستعملًا في الذم والشماتة به أو لطلب الازدياد، ويؤيد هذا الوجه قراءة عبد الله بن مسعود: {وقد تَب} فيتمحض الكلام قبله لمعنى الذم والتحقير دون معنى طلب حصول التبات له، وذلك كقول عبد الله بن رواحة حين خروجه إلى غزوة مُؤتة التي استشهد فيها:
حتَّى يقولوا إذا مَرُّوا على جَدثي ** أرْشَدَك اللَّهُ من غَازٍ وقَدْ رَشِدا

يعني ويقولوا: وقد رشدا، فيصير قوله: أرشدك الله من غازٍ، لمجرد الثناء والغبطة بما حصّله من الشهادة.
{مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ (2)}
استئناف ابتدائي للانتقال من إنشاء الشتم والتوبيخ إلى الإِعلام بأنه آيس من النجاة من هذا التبات، ولا يغنيه ماله، ولا كسبه، أي لا يغني عنه ذلك في دفع شيء عنه في الآخرة.
والتعبير بالماضي في قوله: {ما أغنى} لتحقيق وقوع عدم الإِغناء.
و{ما} نافية، ويجوز أن تكون استفهامية للتوبيخ والإِنكار.
والمال: الممتلكات المتمولة، وغلب عند العرب إطلاقه على الإِبل، ومن كلام عمر: «لولاَ المال الذي أحمل عليه في سبيل الله» إلخ في اتقاء دعوة المظلوم، من (الموطأ)، وقال زهير:
صحيحات مالٍ طالعات بمخرَم

وأهل المدينة وخيبر والبحرين يغلب عندهم على النخيل، وقد تقدم عند قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل} في سورة النساء (29) وفي مواضع.
{وما كسب} موصول وصلته والعائد محذوف جوازًا لأنه ضمير نصب، والتقدير: وما كسبه، أي ما جمعه.
والمراد به: ما يملكه من غير النعَم من نقود وسلاح وربْع وعُروض وطعام، ويجوز أن يراد بماله: جميع ماله، ويكون عطف {وما كسب} من ذكر الخاص بعد العام للاهتمام به، أي ما أغنى عنه ماله التالد وهو ما ورثه عن أبيه عبد المطلب وما كسبه هو بنفسه وهو طريفُه.
وروي عن ابن مسعود أن أبا لهب قال: إن كان ما يقول ابن أخي حقًا فأنا أفتدي نفسي يوم القيامة بمالي وولدي. فأنزل الله: {ما أغنى عنه ماله وما كسب} وقال ابن عباس: {ما كسب} هو ولده فإن الولد من كسب أبيه.
{سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ (3)}
بيان لجملة: {ما أغنى عنه ماله وما كسب} أي لا يغني عنه شيء من عذاب جهنم.
ونزل هذا القرآن في حياة أبي لهب.
وقد مات بعد ذلك كافرًا، فكانت هذه الآية إعلامًا بأنه لا يُسلم وكانت من دلائل النبوءة.
والسين للتحقيق مثل قوله تعالى: {قال سوف أستغفر لكم ربي} [يوسف: 98].
و(يصلى نارًا) يُشوَى بها ويحس بإحراقها.
وأصل الفعل: صلاهُ بالنار، إذا شواه، ثم جاء منه صَلي كأفعال الإِحساس مثل فرِح ومرِض.
ونُصب {نارًا} على نزع الخافض.
ووصف النار بـ: {ذات لهب} لزيادة تقرير المناسبة بين اسمه وبين كفره إذ هو أبو لهب والنار ذات لهب.
وهو ما تقدم الإِيماء إليه بذكر كنيته كما قدمناه آنفًا، وفي وصف النار بذلك زيادة كشف لحقيقة النار وهو مِثل التأكيد.
وبين لَفضي {لهب} الأول و{لهب} الثاني الجناس التام.
{وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4)}
أعقب ذم أبي لهب ووعيدهُ بمثل ذلك لامرأته لأنها كانت تشاركه في أذى النبي صلى الله عليه وسلم وتعينه عليه.
وامرأته: أي زوجُه، قال تعالى في قصة إبراهيم: {وامرأته قائمة} [هود: 71] وفي قصة لوط: {إلا امرأته كانت من الغابرين} [الأعراف: 83] وفي قصة نسوة يوسف: {امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه} [يوسف: 30].
وامرأة أبي لهب هي أم جَميل، واسمها أرْوَى بنتُ حرب بن أمية وهي أخت أبي سفيان بن حرب، وقيل: اسمها العَوراء، فقيل هو وصف وأنها كانت عوراء، وقيل: اسمها، وذكر بعضهم: أن اسمها العَوَّاء بهمزة بعد الواو.
وكانت أم جميل هذه تحمل حطب العضاه والشوككِ فتضعه في الليل في طريق النبي صلى الله عليه وسلم الذي يسلك منه إلى بيته ليعقِر قدميه.
فلما حصل لأبي لهب وعيد مقتبس من كنيته جُعل لامرأته وعيد مقتبَس لفظُه من فِعلها وهو حَمْل الحطب في الدنيا، فأُنذرت بأنها تحمل الحطب في جهنم ليوقَد به على زوجها، وذلك خزي لها ولزوجها إذ جعل شدة عذابه على يد أحب الناس إليه، وجعلها سببًا لعذاب أعز الناس عليها.
فقوله: {وامرأته} عطف على الضمير المستتر في {سيصلى} [المسد: 3] أي وتصلى امرأته نارًا.
وقوله: {حمالةُ الحطب} قرأه الجمهور برفع {حمالةُ} على أنه صفة لامرأته فيَحتمل أنها صفتها في جهنم ويحتمل أنها صفتها التي كانت تعمل في الدّنيا بجلب حطب العضاه لتضعه في طريق النبي صلى الله عليه وسلم على طريقة التوجيه والإِيماء إلى تعليل تعذيبها بذلك.
وقرأه عاصم بنصب {حمالة} على الحال من {امرأته}.
وفيه من التوجيه والإِيماء ما في قراءة الرفع.
وجملة: {في جيدها حبل من مسد} صفة ثانية أو حال ثانية وذلك إخبار بما تعامل به في الآخرة، أي جعل لها حبل في عنقها تحمِل فيه الحطب في جهنم لإِسعار النار على زوجها جزاء مماثلًا لعملها في الدنيا الذي أغضب الله تعالى عليها.
والجِيد: العُنق، وغلَب في الاستعمال على عنق المرأة وعلى محل القلادة منه فَقَلّ أن يذكر العُنق في وصف النساء في الشعر العربي إلا إذا كان عُنُقًا موصوفًا بالحسن وقد جمعهما امرؤ القيس في قوله:
وجيدٍ كجِيد الرِئم ليس بفاحش ** إذا هي نَصَّتْه ولا بمُعَطَّل

قال السهيلي في (الروض): والمعروف أن يذكر العنق إذا ذكر الحَلي أو الحُسن فإنما حَسُن هنا ذِكر الجيد في حكم البلاغة لأنها امرأة والنساء تحلي أجيادَهن وأم جميل لا حلي لها في الآخرة إلا الحَبل المجعول في عنقها فلما أقيم لها ذلك مقام الحَلي ذُكر الجيد معه، ألا ترى إلى قول الأعشى:
يومَ تبدي لنا قتيلةُ عن جي** د أسيل تزينُه الأطواق

ولم يقل عن عنق.
وقول الآخر:
وأحسن من عقد المليحة جيدُها

ولم يقل عنقها ولو قال لكان غثًا من الكلام.
اهـ.
قلت: وأما قول المعري:
الحَجْلُ للرِّجْل والتاجُ المُنيفُ لما ** فوقَ الحِجَاج وعقْد الدرّ للعنق

فإنما حسنه ما بين العقد والعنق من الجناس إتمامًا للمجانسة التي بين الحَجْل والرجل، والتاج والحجاج، وهو مقصود الشاعر.
والحبْل: ما يربط به الأشياء التي يراد اتصالُ بعضها ببعض وتقيدُ به الدابة والمسجون كيلا يبرح من المكان، وهو ضفير من الليف أو من سُيور جلد في طول متفاوت على حسب قوة ما يشد به أو يربط في وتدٍ أو حلقة أو شجرة بحيث يمنع المربوط به من مغادرة موضعه إلى غيره على بعد يراد، وتربط به قلوع السفن وتشد به السفن في الأرض في الشواطئ، وتقدم في قوله تعالى: {واعتصموا بحبل اللَّه جميعًا} وقوله: {إلا بحبل من اللَّه وحبل من الناس} كلاها في سورة آل عمران (102- 113)، ويقال: حبله إذا ربطه.
والمسدّ: ليف من ليف اليمن شديد، والحِبال التي تفتل منه تكون قوية وصُلبة.
وقدم الخبر من قوله: {في جيدها} للاهتمام بوصف تلك الحالة الفظيعة التي عوضت فيها بحبل في جيدها عن العقد الذي كانت تحلي به جيدها في الدنيا فتربط به إذ قد كانت هي وزوجها من أهل الثراء وسادة أهل البطحاء، وقد ماتت أم جميل على الشرك. اهـ.